”نموت ويحيا الوطن“ عبارة طالما سمعناها في مشاتل الوطنية ومراعي الطفولة منذ ذلك اليوم المشهود من شهر أيلول، حيث حملنا تلك الحقائب المحملة بأطنان الأسفار النازة بالوطنية، قاصدين ذلك البناء الحديث المنتصب بزهو في قلب القرية: المدرسة. طالما أطربت العبارة آذاننا بموسيقاها وبجمالها الأخاذ وتركتنا نسيح في أرض الله الرحبة الواسعة باحثين عن هذا العظيم المسمى وطناً. كم مرة جلسنا في غرفنا المضاءة بقناديل الشمع أو بمصابيح "البرافين" ننتظر قدومه لكي نراه، ولو من بعيد، حاملاً بهجته وعطفه الأبوي الأبدي لِيُسَيِّجَ به أسوار طفولتنا ويبدد سواد ليالينا. كم مرة اضطربت مشاعرنا وارتجت شغاف قلوبنا ونحن نتصور الوطن صاعداً من النافذة في غفلة من أمهاتنا وآبائنا ليبشرنا ببشرى الرضا عنا لاختيارنا الموت في سبيله! كم مرة تراقصت فرائصنا ونحن نرى الوطن نازلاً من برجه المخملي لِيَطَّلِعَ على أحوالنا. سمعنا قصصاً تَخَفّيهِ في لباس العمال والفلاحين بل وحتى في جلابيب المتسولين المهترئة ليطلع على أحوالنا وصرنا ننتظر قدومه ليخلصنا. رأيناه مرة ينظر إلينا من ثقب الباب ومرات عديدة يخاطبنا من بين الصفحات الملونة في تلك الأسفار الكثيرة التي كان بعض آبائنا يستدينون لشرائها في مشهد راق يدل على انسحاقهم في حب الوطن. لم نعد نعرف كم محسناً أقرض آباءنا بعض المال ليلهثوا إلى المكتبات محملين بتلك الورقة البيضاء المكتوب عليها بالأحمر القاني أسماء شًفْرة الوطنية اللازم توفرها للحصول على مقعد في الصف. رأينا آباءنا ينسحقون في اليوم آلاف المرات. أوليس من الحب ما سحق؟ آباؤنا سُحِقوا في سبيل أجمل أمنية: الموت على هامش الوطن. ليس كل من أحب الوطن يستحق الموت في بحبوحته، كما قيل لنا؛ العذاب في غواية الوطن يزيد من حبه. اَلتَّنَيُّحُ في الهامش أرفع ودليل على مقدار الإخلاص الذي لا يدركه إلا من تماهى جسده مع جسد المحبوب فصارا جسداً واحداً. فالحلول في حب الوطن كحلول السكر في الماء أو كحلول الصوفي في ذات خالق الكون. ما أعظمها من مرتبة نشتريها بتحمل البؤس في كنف هذا المعبود المسمى وطناً!
كم مرة دارت في خُلْدِنا أفكار فقمعناها خوفاً من غضب الوطن الشديد. تعلمنا أن الوطن شديد العقاب وسريع الغضب، ولكن رحمته وسعت كل شيء أيضاً؛ سعة تسعها مقولة "الوطن غفور رحيم". الأحسن إذن ألا نغضبه حتى في أحلامنا؛ فوأد الأحلام جزء من الموت في سبيله. كم حلماً قتلناه ودفناه خلسة حتى لا يَأْخُذَ هذا الكائن الهلامي، المسمى وطنأ، على خاطره. كنا نحلم بأن يكون لنا تلفاز أو إنارة أو حتى آلة من تلك الآلات الكثيرة المبثوثة في المقررات الدراسية لنلعب بها كبقية أقراننا فيما وراء عالمنا المُحاصَرِ بالجبال الشاهقة والمُحاط بكل أنواع العوائق، فاسْتَبَدَّ بنا الخوف وقمعنا تلك الرغبة الجامحة المليئة بالتجرؤ على الوطن. كيف نسمح لأحلامنا الصغيرة بأن تجرفنا إلى اللهو والحنين إلى ما لم يمنحه إيانا الرجل الكبير. الحلم في الوطن جريمة والجرم يزداد جرماً عندما يقترفه من حَنَطَهُمْ الأب الكبير وفعل كل شيء لِتَكْليسِ عقولهم بحبه السرمدي. كثرة الأحلام بداية نهاية الوطن، أو هكذا قال الحكماء ذات يوم. فاغتالوا أحلامكم، اِخْنِقوها وارسموا لهما قبوراً في مخيلاتكم الصغيرة. من يحلم كثيراً يتآمر كثيراً حسب عرفهم، لهذا ابتدعوا رقيبا لحماية الوطن من الأحلام الطائشة. فمن حق الوطن سحق كل الحالمين حتى لا يصير الحلم، القريب من الاحتلام، دعوة للتمرد على هذا الأب الحنون العطوف. كم مرة، ناديتنا أيها الوطن الحنون من تحت الوسادة، فأنت تسكن حتى في غرف نومنا، تزف إلينا خبر نجاحنا في امتحان الأحلام. قلت، عفواً قُلْتُمْ، إن "أحلامكم أحلى من الورد وأزكى من أريج كل أزهار هذا الكون المرصع بجمال الله. سيروا، وفقكم الله ورضي عنكم، على هذا التهج. نهج أسلافكم المخلصين في أحلامهم ويقظتهم لحبنا وحلمنا الأبدي." أردنا أن نسأله عن "حلمه الأبدي" ولكنه واصل حديثه بجدية قريبة من الغضب: "ليس في أحلاكم ما يثير القلق. لقد نجحتم في الاختبار وفزتهم بالمفازة العظمي: انحفر حبنا في صدوركم وطَوَّعَ أحلامكم. سيروا هانئين فأنتم الآن مُلَقَّحونَ ضد النقد وهُراء الخوارج." فتحنا أفواهنا للاستفستار عن معنى الخوارج وهرطقتهم ولكن الوطن اختفى فجأة فبحثنا عنه في كل مكان ولم نجده، وتلك قصة أخرى.
عندما تطور فهمنا وزاد منسوب وعينا واستطعنا فك رموز طلاسم مقولة "نموت ويحيا الوطن" فهمنا المعنى والمراد فازداد حماسنا وتقوت عزيمتنا في الموت في سبيل حياة الوطن. اكتشفنا فجأة أن الوطن كائن حي كسائر الكائنات، إذا لم نمت من أجله مات هو. إذا استكثرنا عليه دماءنا استرخص هو دماءه ومات في سبيلنا. إذا بَخِلْنا عليه بوأد أحلامنا جاء بقوم آخرين يوقرونه ويقتلون أنفسهم كل يوم فداء لحبه. لكن هل نسمح بموت الوطن كي نحيا نحن؟ هل نُفَرِّطُ في الوطن لوطن عابر وفي حياة لا تساوي ذرة تراب من ذرات الوطن التي يراقصها النسيم عند هبوب الريح؟ كيف لنا أن ننسى خير الوطن فينا والجميل الذي صنعه فينا بتركنا نعيش وندب على ظهره كل هذه السنين ولما يجيء وقت رد الدين نتنكر له ونصم آذاننا ونضع فيها أوقاراً، باحثين عن كل الأعذار ومتوسلين كل الوسائل للهروب من معركة حياة الوطن. يا سادة، الوطن يناديكم ولكنكم، من فرط أنانيتكم، تركتموه كالحُطَيْئَةِ في شِعْبِهِ مع عجوزه وأشباحه يتضور جوعاً ويتوجع ألماً. بئس من يترك الوطن وليمة للذئاب وغنيمة للمتحاربين في وقت الشدة. تساءلنا لليال طوال عن جبننا عن تحقيق الموت في سبيل الوطن فلم نجد جواباً واحدا بل وجدنا أجوبة ربما يحين الوقت لشرحها يوماً.
نَذْكُرُ مرة أننا حضرنا صلاة وراح الخطيب يخطب فينا قائلا: "فلا قيمة لحياتكم دون حياة هذا العظيم الذي نسميه الوطن " وواصل خطبته لِيُفْصِحَ عن معرفة دقيقة بفنون اللغة العربية " ياقوم، إن لفظتي وطن و"وثن" من أصل واحد. أليس هذا كافياً ليدل على أن الوطن رديف الوثن بكل ما يتطلبه من تبجيل وتدين. أليس حريا بنا أن نتمسك بالوثن-الوطن أكثر من أهل الجاهلية الكفار. فالوطن يا أحبتي، بحكم اصله هذا، جدير بكل التجيل والتقوى التي غمر بها الكفار أوثانهم في عصر الظلمات. تفكروا واستذكروا أن هؤلاء أناس لم يتعلموا مثلكم ولكنهم عرفوا قيمية الوثن-الوطن فتشبثوا به وأعزوه. إن أكرمكم وأَبَرَّكُمْ بالوطن أتقاكم؛ فموتوا حتى يحيا الوطن على جثتكم وتتشبع حبات ترابه بدم دمكم. موتوا قرابين على مذبح الوطن، فالوطن مذبح يُذْبَحُ ويُسْلَخُ فيه الأبناء حبا وقربانا. لا يشعرون بألم الموت. الموت في سبيل الوطن، على ضفاف الوطن، أو حتى في مواخير الوطن وحاناته، يُنجيكم من النار. لا يهم أين ولا كيف مِتُمْ إن مِتُمْ فداء لشعاركم الخالد " نموت ويحيا الوطن". لا يهم إن مِتُمْ واقفين أو جالسين، سُكارى أو في كامل وعيكم، طاهرين أو جُنُباً، انتهيتم للتو من معاشرة أزواجكم الحلال أو ضاجعتم ناكحات الجهاد، لا بأس عليكم. المهم أن الوطن قرة أعينكم وتاج تيجان رءوسكم". ما أتعس الوطن الذي يطلب من أشباه الدعاة أن يكونوا في صفه!
لما كًبِرْنا، اكتشفنا الوطن ماخوراً تُفْتَضُّ فيه بكراتنا كل يوم. عرفنا وجهه القبيح وأدمت أحذيته الغليظة أجسادنا. زال عنه رداء النفاق ووقف عارياً في صورته الاصلية. صلفاً، نزقاً، كذاباً، منافقاً وعربيداً. يسكر حتى العربدة بروح الحياة فينا ويشرب نخبه على عظامنا المهشمة في كل وقت وحين. يمر علينا صباح مساء دون سلام، كلما رآنا أشاح بوجهه المضيء إلى حيث لا يمكنه رؤيتنا. كفر بنا وكفرنا به. لأول مرة عرفنا معنى أنياب وأظافر الوطن، وتلذذنا بطعم انغراسها في لحمنا، ليس مازوخية ولكن لأننا هكذا اكتشفنا زيف زياراته في الأحلام وما تعلمناه عنه في الكتب. رأينا الوطن يغتصبنا مع كل شهيق وزفير، يمص دمائنا يومياً ويشبع نهمه للفتك بتفقيرنا. رأيناه يزداد فظاظة فضحكنا، وازداد سماجة ففرحنا وحاول بهلوانياته القديمة معنا فوجدنا غير قادرين على الضحك لشطحاته البالية. اكتشفنا أن الوطن، ذلك الصنم الكبير، صار بشعاً ولم نعد نطيقه. تهشمت صوره المصقولة على زجاج الكذب كصلد نخرته عوامل التعرية. بان على حقيقته عولقاً نقدم له أنفسنا كل يوم لِيُصَيِّرَنا فضلات تقتات عليها الطفيليات المُتَناسِلة في كل أرجائه.
مرت السنين ودارت الأيام وانشغلنا عنه بحيواتنا حتى استيقظنا فجأة على انكشافه. بدا لنا عجوزاً هرماً يعيش بالتنفس الاصطناعي على البقية الباقية من رئانا؛ ميت حي، تتقاذفه أمواج الموت والحياة على سرير من صَحَتْ ضمائرهم فجأة وزال كلس السنين من بواطن أدمغتهم. انقشع حجاب الغيوم على أعيننا، فرأيناه كما لم نره من قبل. رأينا أن صباغة شعره لم تعد تنفع لإخفاء الشيب الذي غزى رأسه ووجهه بل وامتد إلى خياشيمه الكث شعرها. عرفنا أن الغضون استولت على وجهه وترهل جلده فصار كبهلوان لم تعد المساحيق تخفي بشاعته. وأهم ما تعلمنا هو أن الوطن رجل قزم. لم يكن عملاقا أبداً كما كنا نعتقد. كان يلجأ فقط إلى حيلة من حيله الكثيرة: كان يشتري أحذية ذات كعب عال ليبدو أطول منا جميعا. وفي أحيان كثيرة غالباً ما يختار مُجالسيه من الأقصر منه حتى يبدو طويلاً بين كل الأوطان. رأيناه ملاكماً قوياً ذهبت هيبته وخارت قواه فلم يعد يقدر على المشي. فجأة اختفى التبجيل المغشوش وزال عنه ذلك الاحترام الذي كان يلاقيه في الأسواق أو في كل مرة يكون فيها ماشياً بين الجموع. توقف عن زيارتنا في الاحلام واختفت رسائله عن موتنا ليحيا. بُحَّ صوته ولم يعد يصل أي أحد. عَلِمْنا أننا عشنا كذباً في كذب ومات من مات منا في سبيل صنم ليس له اسم غير الوطن.
مات الوطن ولم نمت، بل بالأحرى ماتت صيغة من صيغ الوطن، وعشنا نحن.الوطن صِيَغٌ وأشكال. قد تموت صيغة منه ولا يموت الوطن. من اليوم فصاعداً، سيموت الوطن ملايين المرات يوميا لنحيا ولن نموت ليحيا وطن على بقايا جثتنا المنهكة بشظف العيش وتعاسة الأفق. سنحيا لنحيا وليمت من يستعجل الموت حماية للأصنام.
في تلك الليلة المُسْكِرُ قَمَرُها، تذكرنا من ماتوا في سبيل إسقاط الصيغ السابقة من الوطن، فسقطت دمعات حارقة من مُقلاتنا:
"لنشرب نخبهم على جثت الصيغ البائدة ولنعلق كؤوسنا الفارغة شواهد على قبورها"
وقال آخرون "ولنرقص على أشلاء هذا الخبيث حتى يبزغ فجر الوطن الموعود. الوطن الذي نصنعه بأحلامنا المؤودة منذ مئات السنين. سنرقص على أشلاء الوطن ليحيا وطناً نصنعه بأيدينا ويُجَسِّدَ أحلامنا"
فرقصنا كما لم نرقص من قبل فرحاٌ بموت هذا الطاغوت المُسَمّى وطناً.
للذكرى والتاريخ، احتفظنا منه بحذاء عسكري وهراوة وأصفاد إسبانية الصنع وبقية حلم لم تمصه عوالقه من دمنا.
وكتبنا على قبره العبارة السحرية الجديدة:
"كل حلم بوطن وأنتم بألف خير"
***
١. عنوان المقال مقتبس من قصيدة للشاعر أحمد مطر
٢. الاصفاد الاسبانية حسب عرف السجناء السياسيين أقسى نوع يمكن أن يصفد به الانسان. بل إن أحدهم وصفها بالأصفاد الديكتاتورية.